عن الأكثرية الصامتة وشهوة الدم-
علي عزّت الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات
في لحظات النّزاع الأعمى، تتحوّل الكتابة إلى لزوم ما لا يلزم، مجرد فزلكة بلا جدوى. لكنّي أؤمن أنّها نجوى، نجوى للمتعبين من الصّراخ، لكنّ صوتهم بُحَّ ولم يُسمع، فتحوّلوا حسب التّعبير الدّارج إلى أكثريّةٍ صامتةٍ. ومنذ علا الصّخب الجنونيّ في #بعلبك_الهرمل قبل أيّام نتيجة الصّراع العشائريّ القديم-الجديد، بدأت تداعبني فكرةٌ صامتةٌ كصمتِ الحقيقة الخرساء، وهي أنّ هؤلاء المتعبين حين يصمتون، تعلّق السّماء أصواتهم موسيقى للأمطار القادمة مع الرّبيع، تلك الأمطار القادمة صدفةً لتدهش العالم المأخوذ بالمال، وبالدّين أيضاً، لتدهش الكوكب بالفقراء الفرحين ولو جوعاً، والمتعبين ولو أمواتاً.
فمن هم هؤلاء الصامتون؟ هؤلاء الصامتون هم أهلي، هم أبناء جلدتي، هم الذين سُحنتهم كسُحنتي، وسمرتُهم كسُمرتي، وعيونُهم عربيةٌ تعلوها حواجبهم المسكوبة من جباههم الأصيلة، كما تَنسكب القهوة العربيّة من مصبّات النحاس الخام. هؤلاء الصامتون وجوهُهم الزيتونُ المتعبُ على ضفاف العاصي حتى صار زيت، أعناقُهم الكرمة والدّوالي والعناقيد حتى تتقطّر نبيذاً معتّقاً كعُتق التّاريخ في #بعلبكالهرمل، أجسادُهم أوتاد تمدُّ السّهل كأرجوحةٍ شبكيّةٍ بين جبليْ لبنان الشرقي والغربي. هؤلاء هم الأكثريّة الصّامتة، هم الفلاحون والفلاحات كالأجداد والجدّات، وهم طلبةُ المدارس والجامعات والمعاهد، وهم الكُتّاب والكاتباتُ، والشّعراء والشّاعرات، والعلماء والعالمات، والعاملون والعاملات، والصّغارُ والكبار، والآباء والأمّهات … هؤلاء هم أبناء #بعلبكالهرمل.
فما الذي يحصل في #بعلبكالهرمل؟ تشهدُ هذه المحافظة، اللّبنانيّة بالمناسبة، نزاعاتٍ عمياءَ على خلفيّاتٍ ثأريّةٍ عصبيّةٍ عشائريّةٍ، تهبُّ حيناً وتخمدُ أحياناً، لكنّها دوماً مستعرةٌ كجمرٍ تحت الرّماد. ولهذه النّزاعات أسبابها الثقافيّة والإجتماعيّة والفكريّة، التي تتغذّى على الجهل والتعصب الأعمى و #شهوة¬الدم. ولهذه النّزاعات نتائجُ كارثيّة تطال جميع الناس، الأكثريّة الصّامتة، حيث يُرَوع الآمنون في بيوتهم، وتُستباح أرزاقهم، وتنتهك حرماتهم.
ومع كل موجةٍ متجدّدةٍ من النّزاع، لا أجدُ خطاباً أتوجّه فيه للعشائر كخطابِ ذلك الرّجل العاقل العارف بزمانه ومكانه وعصره، حين توجّه إليهم ناصحا:” إن كنتم ترمون المال والمتاع، فأتيحوا لي فرصة جمعهما من كرام إخوانكم في أقاصي الأرض، حتى أضعها بين أيدي الدّيات والضّحايا، وأرميها حجراً أخيراً على قبر النّزاع والخصومة والهمجيّة. وإن كنتم تريدون الحبّ، فاعتبروني واحداً منكم نمشي بمسيرة الفداء. وإن كنتم تشتهون الدم، لمجرد #شهوة_الدم، فهل لكم أن تقبلوني أنا الضّحية، وتأخذوا الثّأر منّي، وتُطفئوا هذه الشّهوة بدمي.”
وللدولة اللبنانيّة، لولاة أمرها، لأذرعها السياسيّة والأمنيّة والقضائيّة، فعبثاً أخاطبكم. فمنذُ قيام مزرعتكم اللبنانية إلى اليوم لم تكن يوماً باسم حقلٍ في #بعلبكالهرمل، يغرسه أبٌ بالقمح واللحم الحي ليطعم أطفاله. ولم تخصّوننا مرّة بأسهمٍ من بورصات موازناتكم، لعلّ متعهداً يحيل أرضاً جرداء منتجعاً لراحة السياح وزوار السهل. وضاربتم على الصناعيين حتى نتفتم ريشهم، فأغلقتم مصانعنا وفتحتم في عاصمتكم ملاهي ليلية لأبناء الضباط والوزراء والنواب واللصوص. منطقتنا عندكم مزبلة لشعب لم يعد ينتج إلا نفايات منزله. فما حاجتنا للدولة إن كنا سنبقى ندفع فاتورة اشتراك كهرباء لموتور يعوض ضرورة انتفاعكم من شركة الكهرباء، أو لنقلة ماء، تعوض ضرورة انتفاع خصومكم من شركة المياه، أو لقرضٍ مصرفي جديد لشراء شقة، تعوض حرصكم الدائم أنتم وأسلافكم وخلفائكم، على صحة المصارف الداعرة؟ نحن أبناء #بعلبكالهرمل، نحجب الثقة عن دولة ليست بدولة، إلا لأزلامكم، وعن وطن هو أخس وأذل من أن يكون وطننا، لا ثقة بها، ولا بكم.
أما للنّاس، للأكثرية الصامتة، لأهلي، ها نُحن نقاسي الدّهر وحدنا كالأيتام، وسنظلّ وحدنا، نلملم بقايا عواطفنا الذابلة، وشظايا ذاكرتنا التي سقطت، وحدنا. وعدُونا أن ندخل في الوطن، وما دخلنا فيه بعد، فيا لجرحنا ويا لسقمنا. واليوم، نُكمل خاطرةَ الكفر بأصنام الوطن المسخ السياسيّة، ونسجد نرجو إلهاً ما بقلوبنا المثخنة، ونغني للربيع، كما في فكرتي أعلاه، الآتي لا محالة، ليزرع في مدينةِ شمسِنا شمسَه، ويفجّرَ باسمنا جداولَه وأنهارَه، ليصبحَ كلَّ ماءٍ “عاصي”.