لبيروت بقلم علي الجباوي – طالب دكتوراة في علم الأحياء والجينات
أطلّ على بيروتَ اليوم من نافذة غربتي، الأرضُ هنا ما زالت تدور، لكنّ قلبي المفجوع، هناك، هناك في بيروت، يؤدّي واجبه من الألم على مرأى الشمس والبحر، ويرقب فصول مدينتنا التي تبعثرت. أقول، كيف لمدينةٍ من ركامٍ ودمارٍ أن تسكن القلب بهذا الشكل؟ كيف لمدينةٍ لم نر منها خيراً منذ تفتّح وعينا، نحن جيل ما بعد الحرب، أن توجعنا حدّ البكاء. كيف لمدينة لم تعد تشبه وجوه أهلها بعد أن تحّولت إلى مستعمرة عقارية بفعل المتاجرين بدمنا أن تظل ملكةً مطلقةً على عواطفنا وذاكرتنا. يعرّف بعض الفلاسفة الإنتماء بأنه ميل لا عقلائي، وهكذا هو إنتماؤنا لبيروت، إنتماءٌ أشبه بالجنون. بيروت كلّ عواطفنا، هي وحدها تملأ جهات القلب الأربع، فإفتحوا قلوبنا إن شئتم، ثمّة مدينة تسكنها، على كتفها غابة صنوبر، في جيدها عقد من معدن الإنسان الحق، على خصرها حبق، في رأسها أغنيات الخبز وفيروز، وفي شرايينها دم كل من مات لأجلها حباً وعشقاً ووصالاً. أقول، لا بدّ في بيروت عصافير ما زالت تمارس زهوها، لا بد هناك موجة ما زالت تمارس فن الغواية كلّما إرتطمت بصخرة أو إستلقت على صدر شاطئ، فهذه بيروت، قبضة كف وكومة عصافير ووجوه أهل وحيويّة موج. أطل على بيروت اليوم من نافذة غربتي، المدى أمامي يطّلع على فهرس الروح، أنا هنا ربما أرسم صورة لواقع لم نصل إليه بعد، لكني أعلم حقاً، أنّي وإن غادرت، فأنا لم أغادر، فلتعلم كل الحدود أنّنا كلّنا هناك في بيروتنا ولن نغادر، فهي نبيذنا وعشقنا المعتّق في قوارير الإنتماء. في بيروت، سيظل الزمن مختلفاً، ووجه الكون مختلفاً، ووجهة القلب مختلفةً، بيروت زيتنا العربيّ الصافي مثل عروبتنا التي تشبهنا نحن، لا كما عكر البعض. في بيروت نحن أبداً عند ثوابتنا في الخندق الأمامي الذي يحرسه الحبق والبحر. لم نتعب من موتنا المكرر، لم نتعب من موتنا العبثيّ، ولن نتعب رغم كلّ الإحتمال، لأجل بيروت، لأجلها، سنشعل الريح يوما، سنشعل الروح، خذوا علما بذلك.