الأحد , فبراير 23 2025
الرئيسية / واحة الشعر والخواطر / .لأجل من نموت في هذه البلاد؟

.لأجل من نموت في هذه البلاد؟

بقلم الكاتبة مهى هسي 

لأجل من نموت في هذه البلاد؟ هذه البلاد تحديداً؟ يقولون إن الله رسم خط عمر كل إنسان، إلا أن بعض البشر كفروا بالله، ورفعوا عروش أصنامهم وآلهتهم في كل بقاع الأرض حتى أصبح لكل وطن إله، يرفعون راياته ويشتمون الله والبلاد ليحيا “الههم”. أما عنّا نحن فلا نعرف كيف جئنا الى هذه البلاد بالذات، كل ما نعرفه أننا ولدنا منذ الأشهر الأولى غاضبين باكين مضربين عن الطعام والكلام، ثائرين رافضين أن نكون عبيدا لآلهة يتاجرون بالبشر.

في بلادنا أكثر من إله هكذا يقولون، تختلف مهماتهم ولكن يختلف العبيد في صلاتهم. ما يسمونه “اله” هنا أسميه “الديكتاتور”، له أعين في كل مكان، أينما مشيت تجده، أي شيء تقوله يسمعه. كل تحركاتنا موضع اشتباه له، وكل كلماتنا تهديدات. كيفما التفتنا نجد صوراً قديمة للديكتاتور، يظهر وحده دائماً، مشدود الظهر، مسدّداً نظره نحو الكاميرا بشكل ثاقب وملتصق بالجدران. في جارور قصره مسدّسات قديمة، ليست جميلة لكنها ثقيلة الوزن، وإلى جانبها بعض الرصاصات المبعثرة. يوجد فيه أيضاً مفكّرات ودفاتر قديمة، فارغة تماماً وصفحاتها الأولى ممزقة، قداحة فارغة، سبّحة منفرطة، مفاتيح، صغيرة وكبيرة، بعضها أشبه بمفاتيح الأصفاد، وبعضها ربما مفاتيح بوابات الجنان. يشترينا بأبخس الأسعار ويبيعنا كالسلع… كالعبيد نخرج من بين البضائع المزورة ونهتف له ، ظنًّا منّا أنه الاله الذي يملك السماوات والغيوم التي تمطر علينا المال، وكأننا لم نكن السبب في ألوهيته، وكأنه أمطر علينا المال كي ينبت زرعنا في زمن القحط، ولكنه كان يحتكر كل شيء لنفسه ليبقى، يغرينا بكل شيء كي ننسى حقّنا بالعيش، يعدنا بجنته فنصلّي ونركع له متناسين الله وكرامتنا كأفراد. الدكتاتور اله وعدنا بالجنة، قال لنا أن الجهاد في سبيل الموت ضروري، فخطط أسفاره: “عليكم بالجوع كي أطعمكم، عليكم أن تتشردوا كي أضعكم في غرف قصري الكبير، عليكم أن تموتوا وأنتم تقودون سياراتكم في عتم المدينة كي أحيا لكم، عليكم أن تموتوا جراء أدوية فاسدة كي أحيا لكم، عليكم أن تنتظروني على أبواب المستشفيات كي أحيا بكم، عليكم أن تنجبوا أولاداً يموتون من أجل أن أحيا لكم، عليكم أن ترفعوا راياتي في القمم ولو أحرقتكم صواعق الكهرباء…مفاتيح الجنان بين يديّ، فاعبدوني…”
يوم قلنا إننا جياع وفقراء مساكين، استشاط الديكتاتور غضباً، صرخ في وجهنا، جحظت عيناه كسر أشيائنا البسيطة، داسها بقدميه وهشّمها، هدم مملكة الله، وجعلنا نكبر في ليلة واحدة.
عندما صحونا من غفوتنا، كان معتقله قد كبر، أصبح يحوي غرفاً أكثر، ونوافذ أقل. وحين نبكي أو نضحك أو نصرخ، يأخذنا إلى غرفته. يتوسّل إلينا أن نكرّر انفعالاتنا أمام المرايا ولكننا لم نرَ سوى صورته المعكوسة خلفنا.
أما أنا، فقد كنت مشغولة بمراقبة الديكتاتور. يداه ضخمتان، متسختان، بين أظافره سواد فظيع. إلا أنه يرتدي ثياباً أنيقة، يضع حزاماً على خصره ويشدّه، وله شارب يمشطه بحرص شديد. كنت أتأمل علاقته بالأشياء وبنا وبالناس من حولنا. حرصه المتوتّر، نقمته الغريبة وانفعالاته العشوائية. أحاول تفسير ما يطرأ فجأة على مزاجه. غضب أحياناً، حزن في أحيان أخرى، حنان غير مبرّر. يهبّ ويختفي ويقوم بزيارتنا في غرف قصره ويقدّم لنا الماء البارد، أو بعض المكسرّات الرطبة، ويقول “اعبدوني”! لأحول لكم البلاد الى جنة ساحرة.
لم ينتبه الديكتاتور كيف كبر سجناؤه فجأة، حتى أنهم صاروا يفكّرون! لم ينتبه للرسومات على الجدران، ولا للعوالم الصغيرة التي بنيناها في أحواض السمك، أو لخيالنا الذي تكاثر في المعتقل و نما مثل أحلام طويلة. كبرنا في غفلة منه، بينما أعماه غروره عن الأشرعة التي فتحناها من النوافذ.
ظل غافلاً حتى اكتملت أجنحة البعض، وطاروا من المعتقل محدثين ضجيجاً هائلاً. حينها انتفض ونهض مهتاجاً إلى سلاحه، أطلق الرصاص كيفما اتفق. صرخت يومها حتى تمزقت حنجرتي “الله أكبر منك”. تكسرّت المرايا، وارتجت البلاد فاضطر الديكتاتور لحشو فمي بالقماش وحبسي.
يعلو مسدسه خلف رأسي، وأي محاولة لفتح فمي سيؤدي ذلك لإطلاق النار على الرأس مباشرة.
لم أرد أن يسحقني هذا المكان باستدارته المحيّرة، أردت أن أحتفظ بغضبي لربما أستطيع تجميعه لحرق المعتقل، لكنني استسلمت رغماً عني، صرت أراقب فقط، لا أضحك ولا أبكي. أشعر أنه عبر الجدران يراقب تصرفاتي، يراقبني كيف سأجرّب الخروج مجدّداً، لطالما عدت للتوسّل والنحيب والصراخ. الصراخ بوجه العالم، العالم المكتظ بالسجون و الطغاة، طغاة صغار وكبار.
كتبت كل هذا على خرقة مزقتها من ملابسي، أفكّر برميها قبل وصول الرصاصة إلى رأسي، ربما أجد بعد أن أموت تفسيراً لما حدث، عن وطن كشف أوراقه الأخيرة، أو أنها تُكشف له…