صورة تُكفكِفُ الدّمع
2019-09-22
قصة وسرد
485 زيارة
بقلم الكاتب هيثم أبو الغزلان
عندما تجاوَزَت “أمُّ نعيم” مَدخل المخيم، قبيل مَغرِبِ يومٍ خريفيّ، توقّفت أمام حائطٍ عالٍ من الإسمنت السّميك. في تلك اللحظات التفتت خلفها فلم تجد أحدًا على غير عادة أهل المخيم، لكنّها وَجدَت الحائط الصامت بعلوّه الشاهق، لم تحاول تأمّله، لكنّها حدّثت نفسها قائلة: “لن يصل علوّك إلى السماء”!
أصبح المكان بالقرب من الجدار محطّة يوميّة ترتاح فيها من عناء يوم عمل شاق وطويل لتأمين قوتها وقوت أولادها، بعدها تمضي إلى روتينها اليومي في المخيم. لم يكن محيط المكان يصلح للراحة، رغم ذلك أسندت ظهرها المتعب إليه لعلّها تجد راحة تنسيها بعض ما لاقته من عَنَت. أضحت عيناها المتعبتين تبدوان وكأنّهما كاميرا تلتقطان كل ما هو موجود على الحائط: صور، وخرابيش كلام خطّها فتيان: “الطريق إلى فلسطين يمر من فوّهة البندقية”، و”كلّما كنت نقيَا أحَبّك الأطفال والطّيور والشّجر وبعض البشر”..
ففي هذه المحطة اليومية الاضطرارية تلتقي “أم نعيم” بصوحيباتٍ يمررن ويسلّمن عليها. فالمكان يضج بالمارة العائدين إلى منازلهم بعد عناء يوم عمل طويل. وفي تلك اللحظات شعرت كم هي صعبة وغادرة تلك الأيام التي تمر عليها وهي واقفة كأنّها تُجلَد على ظهرها منذ استشهاد زوجها قبل سنوات طويلة؛ فخلال تلك السنوات لم تذق طعم الراحة وتعبت كثيرًا لتعيل ثلاثة أطفال تركهم والدهم ومضى: صبيّين وفتاة. فذاقوا خلال تلك الأيام المرّ والعلقم، وعاشوا أيامًا كالحة السواد.
مع الأيام ارتبطت “أم نعيم” بعلاقة خاصة بالمكان الذي يتزيّن بصورة زوجها الشهيد. فصورته الكبيرة المرسومة على الجدار وإلى جانبها خريطة فلسطين وحنظلة تحوّلت إلى أيقونة نضالية وكفاحية. “فأبو نعيم” قاتل العدو الإسرائيلي دفاعًا عن المخيم قتالًا شديدًا، لم يستسلم، وأبى إلا النصر أو الشهادة. فكانت له الثانية. وبعد سبعة عشر عامًا على استشهاده تُحدّثه كأنّه أمامها:
– ألم تعاهدني أن لا نفترق مهما حصل؟! ألم تعاهدني أن نسير درب الحياة معًا؟! فلماذا تركتني وحيدة؟!.
..لم تتلقّ جوابًا من صورة تتأمّل تفاصيلها كل يوم، كأنّها تراها لأول مرة، لكنها لا تمل من ذلك، فتتأّمّل الحاجبين الكثيفين، والشارب العريض، والشعر الأسود المنتشر ذات اليمين، وذات الشمال مثل شلّال دافق، وترى في وسط الرأس بحرًا هادئًا كأنّ السفن تجري فيه إلى مستقرّها دون خوف أو وجّل..
ترتاح في النظر إلى تلك العينين المُثبّتتين على جدار شاهق؛ كأنّهما تتابعانها في المنزل، والعمل، وطريق العودة، وقرب الجدار، وفي ثواني الحياة! تسمّرت عيناها في النظر إلى صورة تكاد تنطق، فهي لا تريد المغادرة، وترك صورة زوجها هنا، فرغم مرور وقت طويل على استشهاده لمّا يزل يسكن تفاصيل حياتها.. فهي تؤمن أن البعد لا يمحي الودّ لكنّه يبني الحواجز! هي الحواجز هي نفسها التي تمنع “نعيم” و”محمد” إكمال دراستهما الجامعية، و”زهرة” من الزواج لعدم وجود أوراق ثبوتية!.. كأنّ اللحظات هذه التي تعيشها “أم نعيم” وهي تنظر إلى صورة زوجها، تشبه ما تحدّث عنه “غوار” مع والده في مسرحية “كاسك يا وطن”، لكن “أبو نعيم” ليس والد “غوّار”، و”أم نعيم” ليست “غوّار” ولم تذق طعم المشروبات الروحية في حياتها.. رغم ذلك شعرت بيد زوجها تمسح على رأسها، تواسيها، تكفكف دموعها، تلك اليد الحانية التي تفتقدها منذ سنين!